سورة يوسف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}
واعلم أن المرأة لما قالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين} [يوسف: 32] وسائر النسوة سمعن هذا التهديد فالظاهر أنهن اجتمعن على يوسف عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها وإلا وقعت في السجن وفي الصغار فعند ذلك اجتمع في حق يوسف عليه السلام أنواع من الوسوسة: أحدها: أن زليخا كانت في غاية الحسن.
والثاني: أنها كانت ذات مال وثروة، وكانت على عزم أن تبذل الكل ليوسف بتقدير أن يساعدها على مطلوبها.
والثالث: أن النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر، ومكر النساء في هذا الباب شديد، والرابع: أنه عليه السلام كان خائفاً من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه، فاجتمع في حق يوسف جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها، فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه.
واعلم أن القوة البشرية والطاقة الإنسانية لا تفي بحصول هذه العصمة القوية، فعند هذا التجأ إلى الله تعالى وقال: {رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} وقرئ {السجن} بالفتح على المصدر، وفيه سؤالان:
السؤال الأول: السجن في غاية المكروهية، وما دعونه إليه في غاية المطلوبية، فكيف قال: المشقة أحب إلي من اللذة؟
والجواب: أن تلك اللذة كانت تستعقب آلاماً عظيمة، وهي الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، وذلك المكروه وهو اختيار السجن كان يستعقب سعادات عظيمة، وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، فلهذا السبب قال: {السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ}.
السؤال الثاني: أن حبسهم له معصية كما أن الزنا معصية، فكيف يجوز أن يحب السجن مع أنه معصية.
والجواب: تقدير الكلام أنه إذا كان لابد من التزام أحد الأمرين أعني الزنا والسجن، فهذا أولى، لأنه متى وجب التزام أحد شيئين كل واحد منهما شر فأخفهما أولاهما بالتحمل.
ثم قال: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الجاهلين} أصب إليهن أمل إليهن يقال: صبا إلى اللهو يصبو صبواً إذا مال، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى عنها قالوا: لأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إن لم يصرفه عن ذلك القبيح وقع فيه وتقريره: أن القدرة والداعي إلى الفعل والترك إن استويا امتنع الفعل، لأن الفعل رجحان لأحد الطرفين ومرجوحية للطرف الآخر وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين وهو محال، وإن حصل الرجحان في أحد الطرفين فذلك الرجحان ليس من العبد وإلا لذهبت المراتب إلى غير النهاية بل هو من الله تعالى فالصرف عبارة عن جعله مرجوحاً لأنه متى صار مرجوحاً صار ممتنع الوقوع لأن الوقوع رجحان، فلو وقع حال المرجوحية لحصل الرجحان حال حصول المرجوحية، وهو يقتضي حصول الجمع بين النقيضين وهو محال، فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله تعالى. ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر، وهو أنه كان قد حصل في حق يوسف عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة، ومتى كان الأمر كذلك، فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك، فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعاً من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه، وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الجاهلين}.


{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن زوج المرأة لما ظهر له براءة ساحة يوسف عليه السلام فلا جرم لم يتعرض له، فاحتالت المرأة بعد ذلك بجميع الحيل حتى تحمل يوسف عليه السلام على موافقتها على مرادها، فلم يلتفت يوسف إليها، فلما أيست منه احتالت في طريق آخر وقالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه، وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة، فهذا هو المراد من قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} لأن البداء عبارة عن تغير الرأي عما كان عليه في الأول، والمراد من الآيات براءته بقد القميص من دبر، وخمش الوجه، وإلزام الحكم أياها بقوله: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] وذكرنا أنه ظهرت هناك أنواع أخر من الآيات بلغت مبلغ القطع ولكن القوم سكتوا عنها سعياً في إخفاء الفضيحة.
المسألة الثالثة: قوله: {بدالهم} فعل وفاعله في هذا الموضع قوله: {الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} وظاهر هذا الكلام يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر، إلا أن النحويين اتفقوا على أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يجوز، فإذا قلت خرج ضرب لم يفد ألبتة، فعند هذا قالوا: تقدير الكلام ثم بدا لهم سجنه، إلا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم، وأقول: الذوق يشهد بأن جعل الفعل مخبر عنه لا يجوز وليس لأحد أن يقول الفعل خبراً فجعل الخبر مخبراً عنه لا يجوز، لأنا نقول: الاسم قد يكون خبراً كقولك: زيد قائم فقائم اسم وخبر فعلمنا أن كون الشيء خبراً لا ينافي كونه مخبراً عنه، بل نقول في هذا المقام: شكوك أحدها: أنا إذا قلنا: ضرب فعل فالمخبر عنه بأنه فعل هو ضرب، فالفعل صار مخبراً عنه.
فإن قالوا: المخبر عنه هو هذه الصيغة وهي اسم فنقول: فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل اسم لا فعل وذلك كذب وباطل، بل نقول المخبر عنه بأنه فعل إن كان فعلاً فقد ثبت أن الفعل يصح الإخبار عنه وإن كان اسماً كان معناه: أنا أخبرنا عن الاسم بأنه فعل ومعلوم أنه باطل، وفي هذا الباب مباحث عميقة ذكرناها في كتب المعقولات.
المسألة الثالثة: قال أهل اللغة: الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه، وعلى الطويل، وقال ابن عباس: يريد إلى انقطاع المقالة وما شاع في المدينة من الفاحشة، ثم قيل: الحين هاهنا خمس سنين، وقيل: بل سبع سنين، وقال مقاتل بن سليمان: حبس يوسف اثنتي عشر سنة، والصحيح أن هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي محبوساً مدة طويلة لقوله تعالى: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45].
أما قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ} فهاهنا محذوف، والتقدير: لما أرادوا حبسه حبسوه وحذف ذلك لدلالة قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ} عليه قيل: هما غلامان كانا للملك الأكبر بمصر أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر يساعده عليه فأمر بحبسهما بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: كيف عرفا أنه عليه السلام عالم بالتعبير؟
والجواب: لعله عليه السلام سألهما عن حزنهما وغمهما فذكرا إنا رأينا في المنام هذه الرؤيا، ويحتمل أنهما رأياه وقد أظهر معرفته بأمور منها تعبير الرؤيا فعندها ذكرا له ذلك.
السؤال الثاني: كيف عرف أنهما كانا عبدين للملك:
الجواب: لقوله: {فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41] أي مولاه ولقوله: {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} [يوسف: 42].
السؤال الثالث: كيف عرف أن أحدهما صاحب شراب الملك، والآخر صاحب طعامه؟
والجواب: رؤيا كل واحد منهما تناسب حرفته لأن أحدهما رأى أنه يعصر الخمر والآخر كأنه يحمل فوق رأسه خبزاً.
السؤال الرابع: كيف وقعت رؤية المنام؟
والجواب: فيه قولان:
القول الأول: أن يوسف عليه السلام لما دخل السجن قال لأهله إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين، هلم فلنخبر هذا العبد العبراني برؤيا نخترعها له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً.
قال ابن مسعود: ما كانا رأيا شيئاً وإنما تحالما ليختبرا علمه.
والقول الثاني: قال مجاهد كانا قد رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف عليه السلام فسألاه عنها، فقال الساقي أيها العالم إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل عنبة حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكأن كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيتها الملك فشربه فذلك قوله: {إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} وقال صاحب الطعام إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها خبز وألوان وأطعمه وإذا سباع الطير تنهش منه فذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الآخر إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطير مِنْهُ}.
السؤال الخامس: كيف عرف يوسف عليه السلام أن المراد من قوله: {إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} رؤيا المنام؟
الجواب: لوجوه:
الأول: أنه لو لم يقصد النوم كان ذكر قوله: {أَعْصِرُ} يغنيه عن ذكر قوله: {أَرَانِى} والثاني: دل عليه قوله: {نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36].
السؤال السادس: كيف يعقل عصر الخمر؟
الجواب: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف.
الثاني: أن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤل إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس يقولون فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً.
والثالث: قال أبو صالح: أهل عمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها قال الضحاك: نزل القرآن بألسنة جميع العرب.
السؤال السابع: ما معنى التأويل في قوله: {نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}.
الجواب: تأويل الشيء ما يرجع إليه وهو الذي يؤل إليه آخر ذلك الأمر.
السؤال الثامن: ما المراد من قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}.
الجواب من وجوه:
الأول: معناه إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي بمكارم الأخلاق وجميع الأفعال الحميدة. قيل: إنه كان يعود مرضاهم، ويؤنس حزينهم فقالوا إنك من المحسنين أي في حق الشركاء والأصحاب، وقيل: إنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة فقالوا إنك من المحسنين في أمر الدين، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا، وفي سائر الأمور، وقيل: المراد {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} في علم التعبير، وذلك لأنه متى عبر لم يخط كما قال: {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} [يوسف: 101].
السؤال التاسع: ما حقيقة علم التعبير؟
الجواب: القرآن والبرهان يدلان على صحته.
أما القرآن فهو هذه الآية، وأما البرهان فهو أنه قد ثبت أنه سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك، ومطالعة اللوح المحفوظ والمانع لها من ذلك اشتغالها بتدبير البدن وفي وقت النوم يقل هذا التشاغل فتقوى على هذه المطالعة فإذا وقعت الروح على حالة من الأحوال تركت آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فالمعبر يستدل بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات العقلية فهذا كلام مجمل، وتفصيله مذكور في الكتب العقلية، والشريعة مؤكدة له روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا ما يحدث به الرجل نفسه، ورؤيا تحدث من الشيطان ورؤيا التي هي الرؤيا الصادقة حقة» وهذا تقسيم صحيح في العلوم العقلية وقال عليه السلام: «رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة».


{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلابد هاهنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام والعلماء ذكروا فيه وجوهاً: الأول: أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب، ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام، فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه، حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة.
الثاني: لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه، وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير، ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين، فبين لهما أنه لا يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه، وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقاً على كل الناس في علم التعبير كان أولى، فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقاً في علم التعبير واصلاً فيه إلى ما لم يصل غيره، والثالث: قال السدي: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في النوم بين ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره، ولذلك قال: {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} الرابع: لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله: فأورد عليهما ما دل على كونه رسولاً من عند الله تعالى، فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا، والخامس: لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر، ولا يستوجب العقاب الشديد {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} [الأنفال: 42] والسادس: قوله: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} محمول على اليقظة، والمعنى: أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو، وأي لون هو، وكم هو، وكيف يكون عاقبته؟ أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم، وفيه وجه آخر، قيل: كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً فأرسله إليه، فقال يوسف لا يأتيكما طعام ألا أخبرتكما أن فيه سماً أم لا، هذا هو المراد من قوله: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} وحاصله راجع إلى أنه ادعى الإخبار عن الغيب، وهو يجري مجرى قوله عيسى عليه السلام، {وأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقاً في علم التعبير، والوجوه الثلاثة الأخر لتقرير كونه نبياً صادقاً من عند الله تعالى.
فإن قيل: كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة؟
قلنا: إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لابد وأن يقال: إنه كان قد ذكره، وأيضاً ففي قوله: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} وفي قوله: {واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي} ما يدل على ذلك.
ثم قال تعالى: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم، وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله.
ثم قال: {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: في قوله: {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة. فنقول جوابه من وجوه:
الأول: أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضاً فيه.
والثاني: وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبداً لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد، ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفاً منهم على سبيل التقية، ثم إنه أظهره في هذا الوقت، فكان هذا جارياً مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.
المسألة الثانية: تكرير لفظ {هُمْ} في قوله: {وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} لبيان اختصاصهم بالكفر، ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ، فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد.
واعلم أن قوله: {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} إشارة إلى علم المبدأ. وقوله: {وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} إشارة إلى علم المعاد، ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد، وإن ما وراء ذلك عبث.
ثم قال تعالى: {واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ} وفيه سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر هذا الكلام.
الجواب: أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة، وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله، فإن الإنسان متى ادعى حرفة أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمراً مشهوراً في الدنيا، فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال، فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل.
السؤال الثاني: لما كان نبياً فكيف قال: إني اتبعت ملة آبائي، والنبي لابد وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه.
قلنا: لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير، وأيضاً لعله كان رسولاً من عند الله، إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام.
السؤال الثالث: لم قال: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيء} وحال كل المكلفين كذلك؟
والجواب: ليس المراد بقوله: {مَا كَانَ لَنَا} أنه حرم ذلك عليهم، بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر، ونظيره قوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35].
السؤال الرابع: ما الفائدة في قوله: {مِن شَيء}.
الجواب: أن أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة، فقوله: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيء} رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق، وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله.
ثم قال: {ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} وفيه مسألة. وهي أنه قال: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيء}.
ثم قال: {ذلك مِن فَضْلِ الله} فقوله: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك، فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله. ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه، وفي حق الناس. ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون، ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان، حكي أن واحداً من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر، وقال: هل تشكر الله على الإيمان أم لا. فإن قلت: لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلاً له، فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة، فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة، فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلاً له، فذلك باطل، وصعب الكلام على بشر، فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال: إنا لا نشكر الله على الإيمان، بل الله يشكرنا عليه كما قال: {أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] فقال بشر: لما صعب الكلام سهل.
واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية، وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة.
قال القاضي قوله: {ذلك} إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب: أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق، وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى، والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل، فكان هذا تركاً للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد، لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو هاهنا عدم الإشراك.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10